في مغربٍ يعيش على إيقاع الطموح والاحتواء، يبرز اسم الملك محمد السادس كأحد أكثر القادة العرب إثارة للجدل والاحترام في آنٍ واحد.
ملك لا يرفع صوته، لكنه حين يقرّر، تتغيّر خرائط السياسة والاقتصاد في صمتٍ مهيب.
منذ أن اعتلى العرش سنة 1999 بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني، ظهر جيل جديد من الحكم يجمع بين اللين والقبضة، وبين الحداثة والانضباط.
في عهده، عرف المغرب إصلاحات جريئة ودساتير متقدمة ومشاريع عملاقة، لكنّ كثيرين يرون أيضًا أن خلف هذا الوجه الإصلاحي يكمن نظام صارم يراقب التفاصيل كلها، ويوازن بين الانفتاح والسيطرة بحذرٍ شديد.
بين الحلم بدولة عصرية حديثة، وبين الضرورة في الحفاظ على استقرارٍ داخلي هشّ في محيطٍ مضطرب، يقف محمد السادس في منتصف المعادلة الصعبة:
ملك إصلاحي في العلن، واستراتيجي في العمق، يحكم بمنطقٍ خاص لا يُشبه أحدًا، ولا يُحبّ أن يُشبهه أحد.
وُلد محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف (الملك محمد السادس) في الرباط سنة 1963 (التاسع والعشرين من أغسطس)، وهو الابن الأكبر للملك الحسن الثاني والأميرة لطيفة حمو نشأ في بيت ملكي يجمع بين التقاليد العريقة والانفتاح على العالم، وتلقى تعليمه الابتدائيّ في الكتاب القرآني بالقصر الملكي، والثانويّ بالمعهد المولوي بالرباط، حيث تخرّج سنة 1981. أكمل دراساته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، ونال الإجازة في القانون عام 1985، ثم واصل تعليمه في الخارج حيث حصل على شهادة الدراسات العليا في العلوم السياسية (1987) ودكتوراه القانون العام من جامعة نيس صوفيا أنتيبوليس عام 1993. شمل تكوينه المهنيّ تدريبًا قصير الأجل ببروكسل عام 1988، واكتسب خلال هذه الفترة خبرات دولية في شؤون القانون والعلاقات الدولية، مما أثرى منظوره وشخصيته. تربّع في مراحل شبابه عدد من الشخصيات الأكاديمية والإدارية القريبة من والده الحسن الثاني، وكان لهذه البيئة الأبوية أثر كبير في تكوين رؤيته القيادية.
توليه العرش ورسائله الأولى
انتقل محمد السادس إلى سدة الحكم في 23 يوليو 1999 بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني بنوبة قلبية مفاجئة وبمجرد إعلان وفاة الملك الراحل، أدى الأمير محمد اليمين أمام وثيقة البيعة في قاعة العرش بالقصر الملكي بالرباط، معلنًا توليه رسميًا عرش المملكة بلقب «أمير المؤمنين الملك محمد بن الحسن. في أول خطاب للعرش ألقاه في جامع فاس الكبير في 30 يوليو 1999، شدد جلالته على الاستمرار في نهج الإصلاح والديمقراطية الدستورية؛ مؤكّداً تمسّكه بالملكية الدستورية والتعددية الحزبية والليبرالية الاقتصادية، وبأهمية صيانة حقوق الإنسان والحريات وحل مشكلتي البطالة والفقر. كما جدد في خطاب العرش التزامه “بإكمال وحدتنا الترابية” وصون قضية الصحراء كقضية وطنية مركزية، وشدّد على الرعاية الخاصة بملف التعليم وحل مأساة البطالة في صفوف الشبا.لقد استهلّ محمد السادس حكمه بتحوّل نوعي في أسلوب القصر؛ إذ تخلى عن بعض المظاهر البروتوكولية التقليدية وحرص على الاختلاط المباشر مع المواطنين، حتى أُطلق عليه مغازياً لقب «أمير الفقراء» نظراً لتواضعه وشعبيته الكبيرة في هذه الفترة
الإصلاحات السياسية والاقتصادية
كان محمد السادس من أوائل المستجيبين لمطالب الإصلاح عقب الربيع العربي، فشكل لجنة دستورية جديدة أُعلن عنها في خطاب له مارس 2011 اقرء المزيد. ارتكزت التعديلات الدستورية السابعة التي طرحها الملك على مبادئ تعزيز فصل السلطات وانتقال المزيد من الصلاحيات إلى رئيس الحكومة، مع الحفاظ على “الثوابت الخاصة بالدين الإسلامي وعلى إمارة المؤمنين”، وإعطاء مكانة للأمازيغية كلغة دستورية وشمل الدستور الجديد أيضاً توسيع نطاق الحريات الفردية والجماعية وتعزيز منظومة حقوق الإنسان وإقرار الاستقلالية الكاملة للقضاء. على الصعيد الاقتصادي، أطلق الملك محمد السادس مشاريع كبرى لدعم النمو وجذب الاستثمارات. فقد وجه في خطاب عيد العرش 2002 بإقامة “مركب ضخم” يتكوّن من مينائين تجاري وصناعي في شرق طنجة، وهو ما أصبح فيما بعد ميناء طنجة المتوسط وأضحى هذا الميناء الأكبر بأفريقيا منصة لوجيستية عالمية، تصل طاقته السنوية إلى معالجة نحو 9 ملايين حاوية و7 ملايين مسافر و700 ألف شاحنة، ويحتضن أكثر من 1200 شركة عالمية بأعمال سنوية تبلغ 12 مليار يورو. كما شجّع الملك الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة؛ ففي فبراير 2016 افتتح بنفسه محطة نور-1 للطاقة الشمسية قرب ورزازات (جزء من مشروع نور-ورزازات العملاق)، التي تنتج 160 ميغاواط وتوفّر فرص عمل محلية وتقلّص استهلاك البلاد من الوقود الأحفوري بحوالي مليون طن نفط سنوياًاقرء المزيد. إنّ هذه الإصلاحات السياسية والاقتصادية المتوازية أسهمت في تحديث مؤسسات الدولة وتنويع اقتصاد المغرب، مؤسّسةً لاقتصادٍ منفتح على العالم وتحفيز مشاريع كبرى (كالقطار الفائق السرعة والمطارات والشبكات الطرقية والبنية الفلاحية) دعماً للتنمية الشاملة.
المشاريع الاجتماعية
أطلق الملك محمد السادس منذ بداية عهده برامج اجتماعية طموحة تستهدف الفئات الضعيفة والقطاعات الحيوية. فقد أطلق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، وهي مشروع ملكي شامل لمكافحة الفقر والهشاشة بمشاركة المواطنين المحليين. وقد تركزت المرحلة الأولى (2005–2010) على برامج دعم الفقراء في الوسط القروي والمناطق العزلاء والمهمشة، ثم جاءت المرحلة الثانية (2011–2015) بتوسيع الغلاف المالي ودعم آلاف المشاريع بمناطق جديدة ووصل عدد المستفيدين إلى نحو مليون شخص. وفي سبتمبر 2018 دشّن الملك المرحلة الثالثة (2019–2023) التي ركّزت على تحسين البنى التحتية والخدمات الأساسية في الجهات ذات التجهيز المحدود، وعلى تأهيل الأشخاص في وضعية هشاشة ودمج الشباب اقتصادياً اقرء المزيد على ويكيبديا. إلى جانب ذلك، دعمت المبادرات الملكية التعليم والصحة والتشغيل. ففي التعليم تم توسيع برامج المنح الدراسية وقروض التعليم الأولي، وتنفيذ مشاريع لبناء أقسام جديدة وتحسين التمدرس للأطفال. كما تم إطلاق برنامج “راميد” للتأمين الصحي عمومي على الفئات الفقيرة منذ 2005، وتحسين المرافق الاستشفائية (مستشفيات جهوية ومركزية جديدة). وتهدف كل هذه الخطوات إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتمكين المرأة والشباب. فعلى سبيل المثال، تم تحديث مدونة الأسرة عام 2004 لتعزيز حقوق المرأة، كما أُنشئت صناديق لتمويل المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر التي تعتمد عليها نساء وشباب في الأحياء الشعبية والقرى.
السياسة الخارجية
رتّبت رؤية الملك محمد السادس الخارجيّة المغرب على الساحة الدولية، فعمل على تعزيز العلاقات مع الدول العربية والأفريقية والأوروبية. وفي إفريقيا كرّس جلالته سياسة “أفريقيا أولاً”، فقام بزيارات رسمية لدول قارة جنوب الصحراء وأطلق العديد من المبادرات التنموية الثقافية والدينية هناك (كـ«مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة»). وقد تكلّلت جهود الدبلوماسية الملكية بإعادة انخراط المغرب في المنظمات القارية؛ فبعد 32 سنة من الانسحاب، استعاد المغرب مقعده في الاتحاد الأفريقي عام 2017 بقرارٍ توافقي من أغلبية الدول الأعضاء. وعلى الصعيد العربي، عمل الملك على تعزيز التعاون مع دول الخليج والشرق الأوسط، وأكّد دوماً دعم القضية الفلسطينية ضمن المبادرات العربية والإسلامية. أما في أوروبا، فقد رعى شراكات استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي ودول أوروبية عديدة، واستقطب استثمارات خاصةً من فرنسا وإسبانيا ودول أخرى لتطوير قطاعات صناعية وتجارية. وهذه السياسة الخارجية المتوازنة أكسبت المغرب حضوراً دبلوماسياً فاعلاً وأمنياً (ومثّلت انضمامه إلى التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب مثالاً على ذلك)، ودعمت دوره كحلقة وصل بين الشرق والغرب وكبلد ينطلق من قيمه الإسلامية المعتدلة في تفعيل حوار الأديان والحوكمة العالمية.
الجانب الإنساني والشخصي
يشتهر الملك محمد السادس بسماته الإنسانية وقربه من المواطنين، مما أكسبه محبة شعبية كبيرة. هو ملك يتميّز بالتواضع والرغبة في خدمة الناس؛ فقد سجّل كثيراً من المواقف التي عُبرت فيها عن صدق ارتباطه بمصالح الشعب، من النزول المفاجئ بين الناس أو التنقل بسيارته الخاصة دون حراسة مشدّدة. وبفضل هذا الأسلوب فتح المختصرات الدينية والجمعيات الخيرية، وتعاضدت نزعاته للتبرع والوقف لفائدة مرضى ومستضعفين. وقد لُقب في بدايات حكمه بـ«أمير الفقراء» لأنه تجاوب مع قضايا الطبقة الشعبية بشكل يوميّ وابتعد عن التكلّف البروتوكولي. ويُعرف عنه كذلك اهتمامه بالثقافة والتراث؛ فقد رعاه للمهرجانات الثقافية والفنية، وشجّع التعليم الديني المعتدل والحوار بين الأديان. إن إيمانه بالقيم الروحية والاعتدال يظهر في جميع خطاباته الرسمية؛ فهو يعتبر نفسه «خادم بيت الله الحرام والناس»، ويركّز في خطاباته على قيم التضامن والتسامح. ويقدّر الناس هذا الجانب الشخصي، فيشهدون أنّ الملك محمد السادس يجمع بين ملكية ملكية مهيبة وإنسانية حنونة، ممّا جعل ارتباطه بالمغاربة قوياً واستمرارهم في التعبير عن وفائهم وحبهم لراعيهم.
الرمزية الوطنية والوحدة الترابية
شكل الملك رمزاً لوحدة الوطن والمشروع الملكي في استكمال تراب المغرب. فقد كرّس منذ توليه العرش المناقب الملكية بالحديث عن قضية الصحراء المغربية كقضية وطنية مركزية. وفي هذا الإطار أطلق مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية عام 2007 كإطار تفاوضي للأمم المتحدة، مدعّماً برسائل سياسية ودبلوماسية تؤكّد مغربية الصحراء وتقدّم مقترحاً لحل سلمي شمل الفئات الصحراوية داخل الدولة المغربية. كما رعى الوحدة الوطنية داخلياً من خلال خطوات لامركزية سلطة أكبر إلى الجهات وحكامة أكثر شمولاً، مما جعل الأقاليم الجنوبية جزءاً من نفس مسار التنمية الوطنية. وازداد شعور الانتماء حول شخصه مع إطلاقه برامج وطنية تنموية في كل المناطق، وأحاديثه المتكررة عن التشارك والمسؤولية الوطنية. إن دوره كرمز ووحدة وطنية تبرز في تصديه الحازم لكل محاولات النيل من استقرار المغرب، وتأكيده الدائم على “ثوابت الأمة” ووحدة الأراضي، مما أرسي الثقة في مشروع المغرب كمُوحدة ومقدمةً للاستثمارات والشراكات.
إنجازات حديثة (2020–2025)
واصل الملك محمد السادس إطلاق المشاريع التنموية الضخمة وقيادة التحوّل إلى «المغرب الرقمي». ففي السنوات الأخيرة تمَّ إطلاق قطب المغرب الرقمي من أجل التنمية المستدامة بنيويورك عام 2025، سعياً لتسريع التحول الرقمي في إفريقيا والعالم العربي. وتتجسّد رؤية الملك الرقمية في مشاريع وطنية متسلسلة (من “المغرب الرقمي 2020” إلى “المغرب الرقمي 2030”)، أدخلت الحوسبة في شؤون الإدارة والخدمات العامة والسجل الصحي الإلكتروني وتعليمات حكومية لتعميم الأجرآت الرقمية. ويرى الخبراء أن هذه الخطوات تؤكد أن «رؤية الملك محمد السادس للتحول الرقمي تمثل حجر الزاوية في المشروع التنموي المغربي الحديث»، إذ تهدف إلى بناء مجتمع رقمي مندمج يضع المواطن في صلب السياسات ويُعزّز الشفافية وتكافؤ الفرص. على صعيد آخر، ترسّخت جهود الإصلاح الإداري بتحسين فعالية المؤسسات وإقرار تعاقدات جديدة خاصة بالقطاع العام وتوظيف الشابّات والشبان في مرافق حكومية كجزء من الرؤية التنموية. وتركّزت خطط 2025–2026 على تمكين الشباب والمرأة والعدالة المجالية؛ فمثلاً خصّصت ميزانية 2026 أكثر من 140 مليار درهم للصحة والتعليم (بزيادة 16% عن العام السابق)، وشملت افتتاح مستشفيات جامعية وتوسيع التعليم الأوليt. كما أطلقت مناظرات وطنية كمنتدى الذكاء الاصطناعي 2025 وتضافرت الجهود الحكوميّة لوضع خرائط طريق للتحول الرقمي وتنمية الاقتصاد المبني على المعرفة. كلها معطيات تُبيّن مواصلة المملكة للسير نحو مستقبل عصري ضمن رؤية ملهمة وضعها الملك محمد السادس منذ عقود، وتعزز قدرته على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
أثر محمد السادس ونظرته للمستقبل
خلال ربع قرن من الحكم، نجح الملك محمد السادس في ترك أثر واضح على مسار المغرب الحديث؛ فقد عمل على تحديث المؤسسات السياسية والاقتصادية بالتوازي مع حماية المكتسبات الوطنية والاجتماعية. إن إنجازاته – من دستور متطور واقتصاد منفتح ومشاريع تنموية كبرى إلى برامج اجتماعية طموحة – شكّلت معاً ركائز نموّ المغرب واستقراره نسبياً مقارنة بالعديد من الجوار الإقليمي. ورغم التحديات، ظل محمد السادس يُرسّخ فكرة «ملكية المؤسسات» ويعزّز القيم المؤسساتية؛ كما أثبت استمرارًا في تبني الإصلاح كمنهج، فاتّباعاً لتوجيهاته الوثيقة باحتضان الشباب وتحفيز مشاريعهم. ينظر الملك بحذر إلى المستقبل المغاربي والعالمي، فقد كرَّس خلال خطبه الأخيرة اهتمامه بتنمية العالم القروي والتحول الرقمي الاقتصادي وحماية البيئة، مع مراعاة المبادئ الإسلامية الوسطية. إن رؤيته لبناء «مغرب الغد» تضع الإنسان في المقدمة: صغيرها وكبيرها، متعلّمها وطاقتها البشرية، في جوّ متوازن من الحداثة والهوية. وبذلك يبقى الملك محمد السادس شخصية وطنية ملهمة لشريحة كبيرة من المغاربة، حاملاً شعلة المساواة والانفتاح، وينظر لبلاده بعين الثقة في المستقبل المُتزَننِ النابع من تاريخها العريق وطموحاتها الحديثة.
تحث تحرير أيوب حسين